التقاعد العسكري في ليبيا : تقدير أم تقصير؟
=======================
يُعدّ التقاعد العسكري محطة فاصلة في حياة كل عسكري، فهو نهاية لسنوات من التفاني والتضحية في خدمة الوطن. ولكن، هل يجد العسكري في محطة التقاعد ما يستحقه من تقديرٍ وعرفانٍ بعد سنوات من بذل الغالي والنفيس في سبيل أمن واستقرار الوطن؟ هل تفي التشريعات الليبية بمتطلبات العيش الكريم لفئات العسكريين المختلفة بعد تقاعدهم؟

سنُسلّط الضوء في هذا المقال على كيفية معاملة العسكريين المحالين للتقاعد من الناحية المالية، ونستعرض أبرز المزايا والتحديات التي واجهت التشريعات الضمانية المتعلقة بالعسكريين.

* المملكة الليبية – التأسيس :
شهدت معاملة العسكريين التقاعدية في ليبيا تحولات تشريعية متباينة على مرّ السنين. ففي عهد المملكة الليبية، نصّ قانون التقاعد الصادر عام 1967 (الباب الخامس تحديدًا) على اشتراط خدمة لا تقل عن عشر سنوات لاستحقاق المعاش التقاعدي، مما كان يمثّل إجحافًا في حق العسكريين، خاصةً في ظلّ الوضع الاقتصادي المتواضع. ومع ذلك، فإن صدور قانون التقاعد في ذلك العام مثّل خطوة مهمة نحو تنظيم التقاعد العسكري، حيث أرسى أسسًا قانونية لضمان حقوق العسكريين بعد انتهاء خدمتهم.
* ثورة الفاتح 1969 :
لاحقاً، في عهد معمر القذافي، صدر قانون رقم 43 لسنة 1974م بإصدار قانون تقاعد العسكريين . أحدث هذا القانون تغييراً جذرِياً في نظام التقاعد العسكري، حيث ألغى الأحكام السابقة (بما فيها الباب الخامس من قانون التقاعد الصادر عام 1967 ) ونص على استحقاق العسكري لمعاش تقاعدي بنسبة 80% من راتبه في حالة الوفاة أو العجز، بغض النظر عن مدة خدمته.
إلا أن المشهد التشريعي تغير مرة أخرى مع صدور قانون رقم 3 لسنة 1988م بشأن تعديل المادة 20 من القانون رقم 43 لسنة 1974م بشأن تقاعد العسكريين، الذي عدّل المادة 20 من قانون رقم 43 لسنة 1974م بإصدار قانون تقاعد العسكريين .
ووفقاً لهذا التعديل، أصبح استحقاق المعاش التقاعدي بنسبة 80% مشروطاً بمدة خدمة لا تقل عن 25 سنة. أما من تقل مدة خدمتهم عن هذه المدة، فباتوا يستحقون مكافأة مالية محسوبة بناءً على مدة خدمتهم، بدلاً من المعاش التقاعدي. كما أضاف القانون الجديد شرطاً جديداً يتعلق بموافقة لجنة مُشكلة لتقييم مدة عمل العسكري، ومنح إدارة الحسابات العسكرية صلاحية حجب الصرف في حال وجود دخل آخر للمنتفع. هذه التعديلات أثّرت بشكل مباشر على استحقاقات العسكريين التقاعدية.
ثم تلت ذلك تشريعات وقرارات أخرى لرعاية أحوال الشهداء وإصابات الحروب. ففي عام 1985، صدر قانون رقم 6 لسنة 1985م بشأن تعديل القانون رقم 43 لسنة 1974م بشأن تقاعد العسكريين، الذي عدّل المادتين 23 و26 من قانون رقم 43 لسنة 1974 م بإصدار قانون تقاعد العسكريين . ونصت المادة 23 المعدّلة على صرف معاش لذوي الشهيد يعادل آخر راتب تقاضاه مضافاً إليه كافة العلاوات والمزايا المقررة لأقرانه في الخدمة، مع تعريف الشهيد بأنه من يتوفى بسبب العمليات الحربية أو الحركات الفعلية أو متأثراً بإصابته. كما وسّعت المادة 26 نطاق تطبيق هذه الأحكام لتشمل الوفاة أو الإصابة أثناء التمارين أو القيام بالواجب، مع إعطاء القائد العام للقوات المسلحة صلاحية تطبيقها على حالات خاصة.
وفي عام 1991، صدر قانون رقم 12 لسنة 1991م بشأن تقرير حقوق ومزايا لمن يفقدون حياتهم من العسكريين والمدنيين أثناء تأدية الواجب. اعتبر هذا القانون خدمة من يُفقد حياته أثناء تأدية واجبه مستمرة حتى بلوغه سن التقاعد، ومُنحَت عائلته الحق في تلقي المرتبات والعلاوات. ومع ذلك، ظلت بعض الإشكاليات قائمة بشأن تحول هذا الاستحقاق إلى معاش شيخوخة بعد بلوغ الشهيد سن التقاعد نظرياً. ويُلاحظ التوجه التشريعي نحو تحسين أوضاع عائلات الشهداء مع استمرار بعض التحديات في تطبيق هذه القوانين وتفسيرها.
* ثورة فبراير 2011 :
ومع تغير النظام السياسي في ليبيا بعد ثورة فبراير 2011، صدرت تشريعات جديدة للتعامل مع ملف تقاعد العسكريين. ففي عام 2012، صدر قانون رقم 1 لسنة 2012م بشأن تقرير بعض الأحكام في شأن مرتبات العسكريين وتقاعدهم، الذي أجرى تعديلات مهمة على نظام تقاعد العسكريين. فنصت المادة 3 منه على أحقية العسكري في معاش تقاعدي يعادل 80% من راتبه في حالة الوفاة أو العجز الكلي، بغض النظر عن مدة خدمته، مُعيداً بذلك الحكم الذي كان موجوداً في قانون رقم 43 لسنة 1974م بإصدار قانون تقاعد العسكريين قبل تعديله بقانون رقم 3 لسنة 1988م بشأن تعديل المادة 20 من القانون رقم 43 لسنة 1974م بشأن تقاعد العسكريين .
كما نظّم القانون حالات العجز الجزئي، حيث يُمنح المُتنفع معاشاً يعادل 50% من راتبه، أو معاشاً يُحسب وفقاً للمادة 19 من قانون تقاعد العسكريين بعد إضافة ثلاث سنوات إلى مدة خدمته، أيهما أكبر. وكلف القانون وزارة المالية بتسوية مستحقات صندوق التقاعد عن فروقات الاشتراكات الناتجة عن تطبيق هذا القانون.
وتبعه في نفس العام صدور قانون رقم 60 لسنة 2012م بتعديل نص في قانون التقاعد العسكري، والذي عدّل الفقرة الثالثة من المادة العاشرة من القانون رقم (43) لسنة 1974م بإصدار قانون تقاعد العسكريين، بحيث أصبح المنتفع يستحق، فضلاً عن المعاش، مكافأة عن مدة خدمته الزائدة على ثمان وعشرين سنة وأربعة أخماس السنة تُحدد بواقع راتب شهرين عن كل سنة.
ويُلاحظ من خلال هذا التطور التشريعي في ليبيا محاولات المشرّع لموازنة متطلبات الضمان الاجتماعي للعسكريين مع الاعتبارات المالية والاقتصادية، خاصةً في ظل التحولات السياسية والاقتصادية التي مرّت بها البلاد.
* ثورة الكرامة – ضد الجماعات الارهابية :
في أعقاب ثورة فبراير 2011، وتصاعد التحديات الأمنية بظهور الجماعات الارهابية ، أطلقت عملية الكرامة، مما استدعى عودة الآلاف من العسكريين إلى الخدمة العسكرية، و برزت إشكالية بلوغ الكثير منهم سن التقاعد أثناء الخدمة مع وجود قوانين تُقيد التمديد عند بلوغ السن القانونية، مثل قانون رقم 11 لسنة 2012 بتقرير بعض الأحكام بشأن صلاحيات المستويات القيادية بالجيش الليبي، الذي قيد التمديد بثلاث سنوات، وقانون رقم 1 لسنة 2015 بتعديل القانون رقم 11 لسنة 2012، وقانون رقم 19 لسنة 2015 في شأن صلاحيات المستويات القيادية بالجيش الليبي.
لذا صدر قانون رقم 2 لسنة 2020م بشأن تعديل بعض أحكام القانون رقم 43 لسنة 1974م بشأن تقاعد العسكريين، ليُجري تعديلات جديدة على قانون تقاعد العسكريين رقم 43 لسنة 1974م، مُراعياً الظروف الاستثنائية التي مرّت بها البلاد. فقد اعتبر خدمة العسكريين الذين تجاوزوا سن التقاعد ولم يُحالوا على المعاش بسبب الظروف الاستثنائية، خدمةً فعليةً تُحسب ضمن مدة الخدمة التقاعدية ، والذي ضمن حقوق العسكريين وقادهم من الإجحاف إلى الإنصاف .
وشمل هذا الحكم العسكريين الموجودين بالخدمة وقت صدور القانون والذين تم بلوغهم سن التقاعد قبل أو بعد صدوره، وكذلك المعادين والمستدعين للخدمة. كما ألغى القانون شرط صدور قرار بالاستدعاء أو الإعادة أو التمديد لهؤلاء العسكريين. وقد ضمن حقوق العسكريين التقاعدية .
* اجراءات معاملة العسكريين – ببلوغ السن القانونية للتقاعد :
أما فيما يخص إجراءات معاملة العسكريين المحالين للتقاعد ببلوغ سن التقاعد وفقاً للمادة 16 من قانون رقم 43 لسنة 1974 بإصدار قانون تقاعد العسكريين، فتُحدد مرتباتهم ويتم صرف مستحقاتهم بناءً على قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 441 لسنة 2013، وذلك وفقاً لجدول 1 المرتبات الأساسية وجدول 2 العلاوات الساكنة بالإضافة إلى جدول 3 علاوات التمييز بنسب تتراوح ما بين 30%، 25%، 20%، 15%.
ملاحظة : المقصود بالعلاوات الساكنة هي علاوات تُضاف إلى الراتب الأساسي للعسكري بشكل دوري (شهريًا) بنسب معينة، مما يعزز دخل العسكري دون تغيير لرتبته العسكرية.
مع الإشارة إلى أنه سيتم اتخاذ إجراءات التسوية اللازمة عن الفترة من 1/1/2014م إلى 31/7/2016م فيما بعد، وذلك وفقاً لقرار مجلس الوزراء رقم (343) لسنة 2016م الذي عدّل بعض بنود القرار رقم (441) لسنة 2013م بشأن جداول مرتبات وعلاوات منتسبي الجيش الليبي.
بينما يخضع العاملون في مجالي القضاء العسكري والمهن الطبية (بما فيها المهن الطبية المساعدة) عند تقاعدهم للوائح ونظم رواتب نظرائهم في الجهات الحكومية المدنية، وذلك بشكل منفصل عن نظام رواتب العسكريين وآلية حسابها.
* مثال – ضابط برتبة عميد :
ولتوضيح آلية الحساب، نأخذ مثالاً ضابطاً برتبة عميد لنفترض أنه ترقّى في عام 2014 : مرتبه الأساسي 3,000 دينار، وعلاوته العسكرية 400 دينار، وعلاوة التموين 450 دينار، وعلاوة الملابس 150 دينار، وبدل السيارة 200 دينار. وبزيادة سنوية 50 دينار لمدة 10 سنوات، يصبح إجمالي مرتبه (قبل الخصم – ضريبة الجهاد والاستقطاع الضماني) 4,700 دينار. وبذلك يصبح معاشه التقاعدي (80%) 3,760 دينار.
ويستحق المتقاعد مكافأة إضافية عن كل سنة تزيد على 28 سنة و9 أشهر و19 يوم من خدمته ابتداءً من تاريخ التحاقه بالقوات المسلحة العربية الليبية، تُحدد بواقع راتب شهرين عن كل سنة، وذلك بالإضافة إلى المعاش التقاعدي مع علاوات التمييز المفقودة وكذلك التسوية المالية عن الفترة من 2014/01/01 إلى 2016/7/31.
في الختام، يمكننا القول إن ثورة الكرامة لعبت دوراً محورياً في إنصاف العديد من العسكريين الليبيين من خلال المطالبة بتعديل التشريعات التي أعادت لهم حقوقهم التقاعدية، وخاصة لأولئك الذين واصلوا الخدمة بعد بلوغهم سن التقاعد بسبب الظروف الاستثنائية التي مرت بها البلاد. هذه التعديلات ساعدت في تصحيح كثير من الأوضاع المجحفة، وضمنت للعسكريين المتقاعدين استحقاقاتهم المستحقة.